نداء الإمام السید علی الحسینی الخامنئی إلی حجاج بیت اللَّه الحرام والمسلمین کافة بمناسبة موسم الحج عام 1421 ه

بسم‌اللَّه‌الرحمن‌الرحیم‌

الحمد للَّه رب العالمین والصلاة والسلام علی سیدنا محمد و آله الطاهرین.

قال اللَّه الحکیم: (إن هذه أمتکم أمة واحدة و أنا ربکم فاعبدون)

یعود مرة أخری موسم الحج، و یعود معه المشهد الاستعراضی العظیم المدهش المفعم بالحرکة والنشاط فی قاعدة الوحی والنبوة. أمواج بشریة هادرة من الشعوب الإسلامیة تتحرک من کل حدب و صوب لتصب فی البحر الکبیر، و لتجسد تعایش الأمه الواحدة تحت لواء التوحید. مشاعر مترابطة تجمع هذه الکتل البشریة تقصح عن آمال هذه الأمة الإسلامیة العظیمة و آلامها و تطلعاتها و قدراتها. ساحة الحج تستضیف الآن أناساً من إیران و العراق، من فلسطین و لبنان، من شبه القارة و شمال أفریقیا، من ترکیا و البوسنة، و من أرجاء آسیا و أروبا. هذه الأفئدة المشتاقة تستطیع أن تتحدث عما تحمله قلوب الأمة الإسلامیة، و إنما الحج من أجل هذا التقارب و التباوب بین المسلمین فی جمیع أرجاء العالم.

الرِباط المقدسِ الذی یشد کل هذه القلوب هو نفسه النداء الذیِ انطلق لأول مرة من هذه الأرض، و ملأ الخافقین طولاً و عرضاً و امتد علی کل مساحة التاریخ.. إنه نداء التوحید والوحدة، توحید اللَّه و وحدة الأمة. التوحید: رفض ألوهیة الطواغیت والمستکبرین و جبابرة الثروة والقوة. والوحدة مظهر عزة المسلمین و قدرتهم. الحج أصدق إنباء من کل خطاب مکتوب أو مسموع، یجدد کل عام هذا النداء الخالد عبر اجتماعه العظیم، و یبلغه إلی کل أرجاء العالم. کل مسلم فی کل بقعة من بقاع العالم یجب أن یستحضر فی موسم الحج هذه الحقیقة، و هی أن عزة البلدان الإسلامیة و تقدمها و نموها و نجاحها الشامل إنما یتحقق فی ظل هذین العاملین: التوحید بکل أبعاده الفردیة والاجتماعیة والسیاسیة، والوحدة بمفهومها الصحیح العملی المتناسب مع عالمنا المعاش.

فی تجمع الحج العظیم هذا العام یمکن الاستماع إلی ألوان الأحادیث الحلوة والمرة من الوافدین علی الأراضی المقدسة. کل حدیث فیها یضیف مسؤولیة علی عاتق الجمیع، و مجموع تلک الائحادیث تصور المشهد الحالی لواقع الأمة الإلامیة الکبری.. حدیث الشعب العراقی الذی أرهقه و أزال بهجة حیاته و فرض علیه الهوان والضعف الغازی بظلمه و تطاوله، و الحاکم بدکتاتوریته و سوء تدبیره. حدیث الشعب الأفغانی الذی أحبط التعصبُ و ضیقُ الأفق أجرَ جهاده الطویل، و عرّض شعباً لعبث حفنة غافلة عنودة. حدیث شعب البوسنة الذی تتعرض هویته للخطر و سیادته الوطینة للإبادة بفعل سیاسة استئصال الإسلام التی تمارسها أمریکا و من لف لفها. حدیث الشعب الفلسطینی الذی یرفع عالیاً لواء العزة فی انتفاضته المجیدة، و یبطل بدمه مفعول سیف القسوة والظلم الصهیونی. حدیث شعب لبنان الذی سَخَر بمقاومته الباسلة من أسطورة عدم إمکان دحر الغاصبین المحتلین، و أنزل بهم هزائم مخزیة. حدیث شعوب آسیا الواسطی و شرق آسیا و أفریقیا و الأقلیات المسلمة فی أروبا و أمریکا، و کل منها یخبر عن آلام و أفراح و مصاعب و نجاحات. و أخیراً حدیث شعب إیران الإسلام الذی یقدم بکل عز و افتخار للمشتاقین فصولاً من المقاومة و حرارة الإیمان و تجاربه الیومیة فی مواجهة المؤامرات و الأحقاد، و عزمه الراسخ فی تحقیق المجتمع الإسلامی الأمثل.

الأمة الإسلامیة تقطع الیوم هذا الطریق اللاحب الطویل من النجاحات والاخفاقات. الحکومات الإسلامیة والشعوب الإسلامیة تتحمل مسؤولیة کبری تجاه هذا الواقع. العالم الإسلامی یمر بمرحلة حساسة من تاریخه، و بفهم طبیعة هذه المسؤولیة و اتخاذ موقف ملتزم تجاهها یمکن تجاوز فصل من الضعف والنکد فی کتاب تاریخ الإسلام، والانتقال إلی فصل آخر من فصول عزة العالم الإسلامی و عظمته و سطوع نجمه المادی والمعنوی. الغرب الذی یقف وراء ترکیز عوامل الضعف والتخلف فی البلاد الإسلامیة، یعانی الیوم من عقد مستعصیة کبری. فساد المادیة و نظام سلطة رؤوس الأموال بکشف بالتدریج عن توغله إلی قواعد تلک الحضارة المادیة، و یبرز رویداً رویداً تلک الأمراض المزمنة التی کانت مختفیة تحت الوهج المبهر للتقدم الصناعی، و ینبئهم بقرب الأزمة. العالم الإسلامی یحس بهبوب نسیم الصحوة الإسلامیة علی وجهه المرهق الملتهب. و یری مظاهر لک فی کل بقاع العالم الإسلامی خاصة فی إیران العزة والجهاد، و کذلک فی فلسطین و لبنان. نور الأمل یملأ قلوب الشباب فی کل مکان، و طلاسم تحکّم الغرب و إهانته و تحقیره قد انفظّت. و هذه الفرصة لم تتوفر مجاناً، بل بتضحیة آلاف الأرواح الطاهرة علی هذا الطریق. و ما نستقبله من درب هو أیضاً صعب طویل، لکنه مفعم بالیقین و خال من أی شک و تردید. الشعب الفلسطینی أخذ علی عاتقه الیوم السهم الأکبر من مسؤولیة شقّ هذا الطریق والسیر علیه. و علی الجمیع أن یعاضدوا هذا الشعب المظلوم و الشجاع والمتیقظ. الشعوب الأخری تستطیع بمناصرتها الشعب الفلسطینی البطل أن تفی بسهمها فی مواصلة هذا الطریق.

العدو المستکبر الذی یری فی الصحوة الإسلامیة تهدیداً لأطماعه و مصالحه العدوانیة، عمد إلی أهم ما فی یده من سلاح لمواجهة هذا المدّ المتصاعد، و هو سلاح الحرب النفسیة: بثّ الیأس، الاستهانة بالهویة، استعراض العضلات، و سیشهد المستقبل ممارسة آلاف الآلیات الإعلامیة الأخری.. کل ذلک من أجل بث الیأس فی المسلمین من مستقبلهم، و دعوتهم إلی مستقبل منسجم مع أهدافه الخبیثة. هذه الحرب الثقافیة والنفسیة منذ بدایة عصر الاستعمار حتی الآن کانت أمضی أسحلة الغرب فی فرض سیطرته علی البلدان الإسلامیة. و کان غرض هذه السهام السامة بالدرجة الأولی النخبات والمثقفین ثم سائر الجماهیر. و مواجهة هذه الدسیسة إنما یکون بالإعراض عن ثقافة الغرب المتهکمة المفروضة. الثقافة العربیة یجب غربلتها بید النخبات والمثقفین. یؤخذ منها ما کان مفیداً، و یلفظ من الفکر والعمل ما کان منها مضراً و مخرباً و مفسداً.

والحَکَم فی هذه الغربلة الکبری الثقافةُ الإسلامیةُ و ما یقدمه القرآن والسنة من فکر معطاء وضّاء و موجّه. هذا فصل أساسی من النضال الشامل الواعد الذی ینهض به علماء الدین والمثقفون والنخبات السیاسیة فی جمیع أرجاء العالم. علی أمل أن یستطیع حج هذا العام نرسیحَ و تقویة عزم الجمیع علی قطع هذا الطریق المبارک الکریم.

أسأل اللَّه سبحانه و تعالی لکل حجاج بیت اللَّه الحرام توفیق حج مقبول، و عطاء ثرا من برکة هذا الموسم الفرید. والتحیات المبارکات بسعة برکات اللَّه و فضله و رحمته لحضرة بقیةاللَّه الأعظم أرواحنا فداه و عجل اللَّه فرجه، الذی یُحتمل حضوره المبارک فی هذا الموسم السنوی، راجیاً قبول دعائه المستجاب بحقّ الجمیع.

والسلام علیکم و رحمةاللَّه و برکاته - علی الحسینی الخامنئی - 6 ذیالحجة 1421 ه